إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،وأشهد أن محمد عبده ورسوله أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا ... وبعد :
فإنه قد كان من سنة الله الخلاف بعد مجيء البينات ولن تجد لسنة الله تبديل، قال تعالى (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغي بينهم ، فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم )[ البقرة:213] وقال تعالى (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة)[البينة:4] وقال (ص) فيما يرويه البخاري عن أبي سعيد الخدري ... (لتتبعـن سنن من كان قبلكم شبر شبر وذراع بذراع حتى لو دخلوا جحر ظب تبعتموهم , قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال:فمن) إذ فالخلاف سنة لا بد منها ولكن الله يهدي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم .
ومن المسائل التي اختلفت فيها أمة محمد (ص) بعده (مسألة الإيـمان)، فقد انقسموا في هذه المسألة إلى مذاهب متعددة, حتى قال المؤلفون ما أكثر ما يختلف الناس في هذه المسألة, وهذا اعتراف منهم أنها أكثر المسائل اختلافا .
فقد قالت طوائف المرجئة أن الإيمان هو مجرد التصديق القلبي،وكان دليلهم اللغة أنها سمت التصديق إيمان كقوله تعالى (..وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين) [يوسف:17] فقالوا من صدق بقلبه فهو مؤمن كامل الإيمان .
وتليهم أهل السنة والأشاعرة، فمنهم من قال أن الإيمان هو مجرد التصديق كأبي حنيفة النعمان ، ومنهم من اشترط الشهادة فقط وحتى لو قالوا أن العمل شرط فهم لا يشترطونه حقيقة، وذلك لأن من ترك الفرائض وارتكب المحارم لا يزال عندهم مؤمنا، إذ فاشتراطهم للعمل ليس حقيقي وإنما هو تمويه ، والحقيقة أن المرجئة وأهل السنة سواء في عدم اشتراط العمل وإنما الخلاف بينهما لفظي، وحتى اشتراط الشهادة فإن المرجئة يشترطونها فيقولون لا يعلم تصديق القلب إلا بها , أو ما يقوم مقامها كقول أحدهم آمنت بالله ورسوله .
إلا أن أهل السنة والمرجئة سواء في مسألة الإرجاء، فالمرجئة إنما سموا بذلك لأنهم يرجون الأحكام على العصاة ، وكذلك أهل السنة فهم يرجون الأحكام على العصاة ، فيقولون أهل الكبائر تحت المشيئة إن شاء ربنا عاقبهم وإن شاء عفا عنهم، فهم في هذه الناحية سواء، إلا أن أهل السنة يقولون أنه مؤمن ناقص الإيمان والمرجئة يقولون أنه مؤمن كامل الإيمان, والخلاصة أنهم متفقون على أن أهل الكبائر مؤمنون ومرجي أمرهم إلى الله .
وأهل السنة يقولون لو عذب الله مرتكب الكبيرة فإنـما يعذبـه بقدر عمله ، وذلك إذا لم تكن له حسنات ترجح على السيئات ولم تدركه الرحمات ولم تنفعه الشفاعات ، أما المرجئة فعلى خلاف بينهم فمنهم من يقول يعذب كقول أهل السنة، ومنهم من يقول أنه لا يعذب ويستدلون بالآيات التي تنفي العذاب عن المؤمنين، وسنعرض الآن بنوع من التفصيل مذاهب أهل السنة في الإيمان .
فأما أبو حنيفة النعمان فقال أن الإيمان هو التصديق القلبي وأن الأعمال شرائع الإيمان وليست من الإيمان ، وأما محمد بن نصر المروزي فقد قال أن الإيمان هو التصديق والعمل الصالح وأن كلمة إيمان وإسلام اسمان لمعنى واحد , وقال البخاري الإيمان هو التصديق والعمل ، وقال الزهري الإسلام الكلمة والإيمان العمل ، وقال آخرون بالعموم والخصوص فجعلوا الإيمان أعم من الإسلام, بحيث يصير كل مؤمن مسلما وليس كل مسلم مؤمنا ، وقالوا مسلم ثم مؤمن ثم محسن ثلاث درجات فقد يخرج المرء من الإحسان ليقع في الإيمان ويخرج من الإيمان ليقع في الإسلام، فأقل الدرجات الإسلام وأوسطها الإيمان وأعلاها الإحسان ، وقد وضح ذلك ابن تيمية في كتابه (الإيمان) وشارح العقيدة الطحاوية وشارح صحيح مسلم وشارح صحيح البخاري .
وتلي أهل السنة المعتزلة حيث قالوا أهل الكبائر ليسوا مؤمنين ولا مسلمين ولا كفار ولا مشركين وإنما هم في منـزلة بين الكفر والإيمان، وهم أعداء الله ومستحقون للعنته وليسوا أولياء الله ولا لهم ولاء ولا محبة وإن ماتوا خلدوا في النار وليس لهم أي شفاعة ، وتوجد أصولهم في كتبهم مثل (الكشاف) للزمخشري وفي كتب الجاحظ وغيره من مؤلفيهم، على خلاف بينهم .
وتلي المعتزلة الخوارج حيث يقولون أن الإيمان هو التصديق والعمل، وأن الإيمان يزول بزوال العمل وهم يوافقون المعتـزلة في أن المصر على الكبائر مخلد في النار ، وليس له شفاعة ، ويخالفونهم في مسألة المنـزلة ، وهم جميع مخالفون للمرجئة وأهل السنة .
وعندما نقول أهل السنة فإنما نعني من سموا بذلك - اسم علم- وأما أهل السنة على وجه الحقيقة فهم الذين اتبعوا سنة النبي(ص)وهم كل المسلمين بلا تفريق ومن لم يكن منهم فقد تبرأ منه الرسول (ص) بقوله (من رغب عن سنتي فليس مني) وعلى ذلك فمن لم يكن سني فإنما هو بدْعي ضال .
وليس هذا محل عرض مذاهب القوم فهم على خلاف في الإيمان ، بل كل فرقة لا يزال لها خلاف مع بعضها، وقد لفت كتب كثيرة كل ضد الآخر وخلافه، ولما كان الأمر كذلك فلا بد من معرفة هذه القضية لأنها من أهم القضايا وهي التي من أجلها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب، وهي الأصل الأصيل وعليها يجتمع الناس ويصيرون أمة واحدة ، والخلاف فيها يجعلهم متفرقين إلى ملل متعددة كما حصل لسائر الأمم الماضية وكما هو حاصل لهذه الأمة ..
وما نريده الآن هو معرفة :
* ما هو الإيمان الذي طلبه الله من خلقه .. ؟
وهذا الأمر لا يمكن معرفته باللغة العربية, وذلك لأن الله تعالى قال لرسوله (ص) العربي الذي هو من صميم العرب (وكذلك أوحينا إليك روح من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم)[الشورى:52]فإذا كان الرسول (ص) لا يدري ما الإيمان وهو من صميم العرب، فلا يمكن معرفة الإيمان إلا عن طريق الوحي فقط، وهذا هو السبيل الوحيد لمعرفة الإيمان الذي أراده الله من خلقه، وعلى هذا فيصبح الإيمان منقول عن معناه اللغوي إلى معناه الشرعي، وبهذا فلا يحدد معنى الإيمان إلا الشرع .
وكذا معنى الكفر فقد كان معناه في اللغة : التغطية والستر، ولكن جاء الشرع بمعنى أكثر من ذلك، فنجد أن الله أمرنا بالإيمان به والكفر بالطاغوت، فكيف نكفر بالطاغوت .. أننكر وجوده أم لا ؟ أقول ولو جحدنا بالطاغوت أي: أنكرنا وجوده فهذا كفر، لأن الطاغوت هو كل ما عبد من دون الله وعلى رأس الطواغيت الشيطان، فلا يجوز أن ننكر وجود الشيطان بل لابد أن نؤمن بوجوده ولو لم نؤمن بوجوده لكفرنا بالقرآن، ولكن الكفر بالطاغوت هو مخالفة أمره وعدم اتباعه وهذا هو المعنى الشرعي للكفر، وأصبح الكفر منقول عن معناه اللغوي إلى معناه الشرعي، وكذلك الكفر بالله سبحانه لا يقتصر على إنكار وجود الله بل يتم بـمخالفة أمره وشرعه ، وعلى ذلك اعتبر الله أناس كفار وهم مصدقون بوجوده .
فالذي ندعيه وندين لله تعالى به أن الإيمان الذي أراده الله من خلقه هو أن يجمع الإنسان أمور ثلاثة وهي (التصديق بالقلب-العمل بالجوارح-أن يكون العمل ابتغاء وجه الله) وهذا هو الإيمان المطلوب من قبل الله والمعتبر عنده والذي بـموجبه يتم دخول الجنة، والدليل على هذه الشروط الثلاثة من جهات متعددة، وكل جهة من هذه الجهات تقطع تمام القطع باشتراط تلك الشروط ...
الجهة الأولى : إثبات أن التصديق القلبي لا يكفي للإيمان ، وإبطال الكفر الاعتقادي والاستحلال الاعتقادي .
الجهة الثانية : أن الله وصف المؤمنين بالعمل الصالح .
الجهة الثالثة : أن الله نفى الإيمان عن أناس لتركهم بعض الأعمال الصالحة أو لارتكابهم بعض المحرمات .
الجهة الرابعة : أن الله سمى العمل الصالح إيمانا .
الجهة الخامسة : أن الله رتب أحكام كثيرة على وجود الإيمان .
الجهة السادسة : أن الله اشترط للإيمان العمل الصالح .
* لماذا كل هذه الأدلة في إثبات أن العمل الصالح شرط للإيمان .